فراشة تحت البحر

صورتي
فراشة قلبها من نور..فى عينيها بريق..و روحها بحور..

الجمعة، 5 مارس 2010

زائرة ليلية..




ممتلئة القوام..سمراء..أشد منهم سمرة..هكذا أذكرها..لها شامة على خدها الأيمن قرب أنفها..تجعلها مميزة رغم سمرتها الشديدة..كانت تمشى ببطىء شديد..منحنية إلى حد ما..مما كان يجعلها تبدو أكبر من سنها الحقيقى..و لم تكن بشوشة أبدا..و لكن كانت سمرتها نقية جدا تجعل وجهها ملىء بملامح الطيبة..

كان صوتها عال.. به نبرة كأنها تتكلم من أنفها أحيانا..و كانت تنادى الجميع ب (يا أم فلان..أو يا أبو فلان)...و ترفع شعرها فوق رأسها فى لفات عديدة..يبدو مثل التاج..معظمه أسود و لكنى فى يوم ما رأيتته مفروضا فوجدت به خطوطا رمادية..و ووجدته طويلا يكاد يصل إلى ركبتيها..و اعتقد أنها لم تكن تر بوضوح لأنها كانت تمسك بكل الأاشياء قريبة جدا من عينيها..

كانت تتردد دائما على منزلنا..و كانوا يقولون عنها دائما حكايات كثيرة عن أصلها..كنت استرق السمع أحيانا إليهم..سمعتهم مرة يقولون أنها قبل أن تتزوج كانت تعمل خادمة فى بيت أهل زوجها ..الذى كانت تبدو من ملامحه أن له جذور غير مصرية..ربما أوروبية أو أرمينية أو ما يشبه ذلك..و لكنهم كانوا يقولون أنها الأقدم فى العمارة و هى التى تعرف كل شىء..لم أهتم ابدا بمعرفة اصلها حينها رغم أنى كنت أراها كل يوم تقريبا..و كنا جميعا نكتفى بأنها (تيتا بهية)...

رغم أن عاداتها كانت تدل على أنها اختلطت لفترة من الزمن مع غير المصريين..فقد كانت تتحدث الفرنسية..و الايطالية أحيانا..و تحرص على شرب الشاى فى ميعاده المحدد..و تدخن السجائر التى كانت تعتبر حينها من عادات (الهوانم)..و تغنى أحيانا باليونانية..و تجلس طويلا منشغلة بال(كانافا)و (السيرما)...

حين يجتمع جميع الجدات العجائز و يتحدثون عن حياتهم قديما..و هى أحاديث كنت أحب سماعها..و كنت أطلق عليها (فقرة الذكريات)..و كنت أجلس بعيدا استمع إليهم كيف كن يلبسن..كيف تزوجن..ثم تقول أحداهن لقد {ايت الملك مرة و أنا على البحر..و تقول الأاخرى لقد حضرت حفلة لأم كلثوم..و يتذكرن أفلام ديمة..و مثل تلك الأاشياء...لم تكن هى تتحدث أبدا عن حياتها قبل زواجها..و لم تكن تتحدث كثيرا..و الغريبة أن أحدا لم يسألها..

أذكر زوجها جيدا..كانت ملامحه غير مصرية رغم أنى لا أعرف عنه يقينا أنه لم يكن مصريا..و كان يحبها حبا شديديا..يناديها دائما (يا ست الكل يا بهبوهة)..و رغم أنهما كانا يسكنان فوقنا لزمن طويل لم أسمهعهم أبدا على خلاف...و رغم أنها لم تكن بشوشة..و لا رقيقة فى حديثها رغم طيبتها إلا أنها كانت حين تتحدث عنه يرق حديثها و يخفت صوتها..و حين تقول (محمد الله يرحمه) كانت تتبعها تنهيدة طويلة..و فى حياته لم يكن يرفض لها طلب...و لم يسمح أبدا لأاحد بأن يضايقها..و إن طلبت شىء كان لزاما عليه أن يحققه لها..كان يعاملها كأنها ملكة..لن انكر أنها أصبت أكثر لينا فى طبعها بعد وفاة (محمد)..و ربما بدا على وجهها الانكسار دائما..

كانت ترتدى دائما فستانا ورديا حتى حين توفى زةجها لم تلبس الأاسود كما هو سائد...و لم تكن تغطى راسها كباقى النسائ فى سنها..

كنت أحب أن أسمع حديثها..كانت تعرف كل شىء و أى شىء عن كل سامن فى العمارة..و فى العمارات المجاورة..و اصلهم..و أصل اباءهم أحيانا..رغم أنها لم تكن مختلطة بالكثيرين..و لكن كما كانوا يقولون..(بهية قديمة قدم العمارة هذا الشارع نفسه)...ساعدت فى تربية كل أطفال العمارة.أبناء و أحفاد..فهى (تيتا بهية)...

بعد العصر من كل يوم..حين يهدأ الجميع..و يسكن كل النشاط فى الشارع..و بيدأ أصحاب الدكاكين فى رش المياه أمام ابوابهم جلبا لبعض ال(طراوة)..كنت أرهاخا تجلش فى شرفتها..كنت أخاف النظر إليها أحيانا و لكنى كنت أرى انعكاسها فى الشباك الذى أمام شباكنا..تشرب الشاى و تدخن سيجارتها و تنظر فى نفس الاتتجاه ساعتين أو أكثر..و كنت أفكر دائما فيم تفكر..و كيف لا تمل ذلك الروتين كل يوم..و فى الليل كانت تفعلا ثانية..كانت تشرب القهوة الذى تفوح رائحتها..و تدخن سيجارتها و تجلس فى ال(بلكونة) وحدها ساعات..

كنت أعرف أن (تيتا بهية) لها مكان مقددس غير مسموح لأحد حتى اباءها أن يدخلوه..و هى غرفتها..كنت أراها من الباب فقط..غرفة مظلمة قديمة جدا..كئيبة إلى حد ما..بها الكثير من صورها هى و زوجها..كنت أخاف من تلك الغرفة كثيرا..و إن اقترب منها أحد كانت تصرخ فيه صرخة مرعبة..

كانت ترفض أن تلبس نظارات..أو أن تقلع عن التدخين..رغم إلحاح أبناءها..و كانت تقول كل مرة (هعيش ايه أكتر من اللى عشته!)..

كانت زائرتنا يوميا..و مثل سندريللا ما أن تدق الشاعة الثانية عشر منتصف اليل حتى تقول _و إن كانت حتى فى منتصف حديثها)- بصوت خافت(اقوللكم تصبحوا على خير)..

و لكنى أعرف أنها لن تنام و سوف تجلس فى شرفتها متأملة الشارع القديم قدهما حتى الفجر!...

مرضت تيتا بهية مرض الشيخوخة...لم يصبح جسدها هزيلا..و لم تقلع عن التدخين..و لم تبدل ثوبها الوردى..و حين ماتت..لم يعد ابدا الشارع قديما.و لم يعد أحدا يعرف عمره....




ريهام نجيب
5-3-2010

هناك تعليق واحد:

  1. رحِمَها الله !
    شخْصيَّة جميْلَة
    غُصْت فِي أعْماقها

    لِوصْفكِ الجمِيل
    وكلمَاتكِ الرائِعَة

    سرّني أن أقْرأ
    ذلِكْ

    ردحذف